كان القرن الماضي قرن الحروب والدماء؛ وكان من الصعب فهم هذا الجنون الهستيري لحب الهدم الذي كانت تعيشه الإنسانية حينها. وصلت نزعة التدمير إلى أعلى مراتبها قبيل الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ساحة الحرب تخص القارة الأوروبية فقط؛ ولكن تأثيرها امتد للعالم كله. قبلها، شعر المفكرون الأوربيون بالخطر الذي يسير إليه العالم، فكانت محاولتهم هذه للوقوف ضد الحرب ومحاولة فهم أسبابها ونتائجها. وقاد هذه المحاولة الفيزيائي (ألبيرت إينشتاين ) وعالم النفس (سيغموند فرويد ). وقد وثقا التزامهما ضد الحرب في تبادل رسالتين بينهما. نشرت هذه الرسائل لأول مرة عام 1933 بباريس.
أظن أنه هناك ما يكفي من المال ومن العمل ومن الأكل إذا ما وزعنا خيرات العالم بالتساوي، بدلا من ترك أنفسنا عبيد نظام اقتصادي معين أو عادات بعينها. ولا يحق لنا بالخصوص السماح بإيقاف أفكارنا ومحاولاتنا من أجل عمل بَنَّاء واستغلال هذا في الاستعداد لحرب جديدة. واستشهد هنا برأي (بينيامين فرانكلين ) عندما قال: لم تكن أبدا هناك حرب جيدة، ولم يكن هناك أبدا سلام سيئ. لست فقط مسالم، لكن أيضًا مسالم مناض ل. أريد أن أناضل من أجل السلام. ليس هناك ما يمكنه القضاء على الحرب، إذا لم يرفض الناس الخدمة العسكرية. أليس من الأفضل الموت من أجل قضية يؤمن بها المرء، كالسلم، عوض المعاناة من أجل قضية، لا يؤمن بها، كالحرب؟.
إن كل حرب تضيف حلقة إلى سلسلة الشر الذي يُعيق تقدم الإنسانية. يمكن لحفنة من الرافضين للخدمة العسكرية مضاعفة الرفض العام للحرب. لابد من تلقيح أبنائنا ضد التجنيد، بتربيتهم في روح السلام. يتمثل بؤس أوروبا في كون الشعوب رُبِّيت بأهداف خاطئة؛ تمجد كتبنا المدرسية الحرب وتغطي وحشيتها ويحشون الأطفال بالكراهية. أريد أن أُعَلِّم السلام عوض الكراهية، الحب عوض الحرب. من اللازم علينا أن نهتم بقضية السلام وتقديم نفس التضحيات التي قدمناها دون مقاومة لقضية الحرب. ليس هناك شيء آخر مهما بالنسبة لي من غير هذا الأمر، الذي يشغلني على الدوام. و كل ما أعمله أو أقوم به لا يمكنه تغيير بنية الكون. لكن قد يخدم المرء صوت القضية الكبرى: الوفاق بين الناس والسلام على الأرض.
العزيز السيد فرويد،
إنني سعيد بحصولي من عصبة الأمم ومعهدها العالمي للتعاون الفكري بباريس، على إمكانية فريدة لتبادل فكري حر مع شخص من اختياري حول موضوع من اختياري كذلك وأود المناقشة معكم حول الإشكالية التي يظهر لي بأنها أهم إشكالية حضارية، نظرا لوضع الأمور حاليًا: هل هناك طريق يمكنه تحرير البشر من هول الحرب؟
بما أن التوجه المعتاد لفكري لا يمكنني من إلقاء نظرة على عمق الإرادة والمشاعر الإنسانيين، فإن ما يمكنني القيام به في تبادل أفكارنا هذا هو فقط محاولة عرض الإشكالية وإعطائكم الفرصة لإضاءة الموضوع من زاوية معرفتكم العميقة بالغرائز الإنسانية.
وبما أنني إنسان متحرر من كل المشاعر ذات الطبيعة القومية، يظهر لي بأن الجانب الخارجي أو التنظيمي للإشكالية بسيط: على الدول إقامة إدارة تشريعية وقانونية لحل كل النزاعات التي تقع بينها. تتعهد هذه الدول بالالتزام بالقوانين التي تشرعها هذه الإدارة، والرجوع إلى محكمتها في كل حالات الخصام والخضوع لقراراتها دون شروط وتطبيق كل التدابير التي ترى هذه المحكمة بأنها ضرورية لتطبيق قراراتها. وأواجه هنا أول عقبة: إن المحكمة هي إدارة بشرية، وبهذا قد تميل في اتخاذ قراراتها إلى تأثيرات من خارجها، إذا لم تكن تتوفر إلا على سلطة ضئيلة لفرض قراراتها. لابد على المرء من أخذ الواقعة التالية في الحسبان: يعتبر القانون و القوة ملازمين لبعضهما، وقد تنحاز أحكام هيئة قضائية من هذا النوع إلى مُثُلِ العدالة للدولة التي ينطق الحكم باسمها ولصالح مصالحها، طبقا لأدوات السلطة التي تظهرها هذه الدولة، لفرض احترام مثال عدالتها.
إننا بعيدون كل البعد في هذا الوقت عن إقامة منظمة دولية، يمكن إعطاء محكمتها سلطة غير متنازع عليها وفرض طاعة مطلقة لتطبيق قراراتها. وهذا ما يفرض علي الاستنتاج التالي: إن الطريق إلى الأمن العالمي يقود إلى التنازل الغير المشروط للدول على جزء من حرية ممارستها أو سيادتها، ومن اللازم ألا يشك المرء في وجود طريق آخر لتحقيق هذا الأمن من غير هذا الطريق.
هناك سؤال يطرح نفسه بإلحاح: كيف يمكن للدول توظيف الجماهير الشعبية من أجل تحقيق رغباتها، وهي جماهير سوف لن تجني من الحرب إلا المعاناة والخسارة؟ عندما أتحدث عن الجماهير الشعبية، فإنني لا أستثني كذلك الجنود من كل الدرجات، الذين يجعلون من الحرب مهنة لهم، اقتناعًا منهم بأنهم يخدمون المصالح العليا لشعبهم، وبأن الهجوم هو أحسن وسيلة للدفاع في بعض الأحيان. وقد يكون أقرب جواب على هذا هو: تسيطر الدولة على المدرسة والصحافة وفي غالب الأحيان على التنظيمات الدينية. بهذه الطريقة تسيطر وتدير مشاعر الجماهير العريضة وتجعل منها أداة طيعة في يدها.
لا يستجيب هذا الجواب لكل السياقات، ذلك أن سؤال آخر يفرض نفسه: كيف يمكن تحميس الجماهير عن طريق هذه الوسائل إلى حد الجنون والتضحية بالنفس؟ وقد يكون الجواب هو: تعيش داخل الإنسان الرغبة في الكراهية والتدمير.
أعرف بأنكم أجبتم في مؤلفاتكم مرة مباشرة وأخرى بطريقة غير مباشرة على كل الإشكاليات الملحة التي تشغلنا في هذا السياق. وقد يكون من المفيد جدا، لو أنكم عرضتم إشكالية جعل العالم يعيش في سلام على ضوء معارفكم الجديدة، فقد تنطلق من مثل هذا العرض محاولات مثمرة.
أحييكم بصداقة.
ألبيرت إينشتاين
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان