في عام 1895، أصدر المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون دراسة كان لها وقع كبير في عالمي السياسة والعلم جعل عنوانها: سيكولوجية الجماهير، وقد كانت هذه الدراسة فريدة من نوعها لأن علم النفس -حديث المنشأ آنذاك- اقتصر على الفرد والنفسية الفردية. اكتسب الكتاب أهميته مع صعود الظاهرة الجماهيرية في مطلع القرن العشرين والعبادة النظرية التي أسستها لها الأيديولوجيا الاشتراكية، لا سيما بطبيعتها الماركسية التي وجدت تطبيقًا لها في الثورة البلشفية.
تصورات لوبون عن عصر التحول/ الجماهير:
يرى لوبون أن دخول الطبقات الشعبية للحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة تمثل إحدى الخصائص الأبرز لعصره، وقد أبدى توجسًا من هذا التحول؛ لأن جميع الحضارات التي عرفها البشر بُنيت ووجهت من قبل نخب أرستقراطية مثقفة قليلة العدد، ولم تبن من قبل الجماهير التي غالبًا ما تستخدم قوتها من أجل التدمير والهدم. إن القوة القائدة للحضارة الأوروبية الحديثة (الطبقة البرجوازية) قد انتابها الهلع إزاء صعود الظاهرة الجماهيرية، وقد دفع بها هذا الهلع إلى توجيه نداءاتها اليائسة إلى الكنيسة -التي كانت موضع احتقارها فيما سبق- رغبةً في ترويض الجماهير، ولكن لوبون لا يرى جدوى من تلك النداءات، ويرى أن العلم هو الأداة الوحيدة القادرة على فهم نفسية الجماهير، وضبطها.
يفرق لوبون بين المعنى العادي لمصطلح جمهور، وهو تجمع لعدد من الأفراد أيًا كانت هويتهم القومية أو مهنتهم أو جنسهم، وأيًا كانت المصادفة التي جمعتهم، وبين الجمهور بمعناه النفسي والسوسيولوجي، فالجمهور النفسي هو ظاهرة تتكتل فيها مجموعات ما من البشر في ظروف معينة تتلاشى فيها الخصائص الشخصية الواعية المميزة للفرد، وتتشكل فيها روح جماعية وفق نمط جمعي لا شعوري، فالظاهرة الجماهيرية ذات طبيعة دينية (تلعب فيها العاطفة المحركة دورًا محركًا رئيسيًا، ويكون الزعيم فيها بمثابة النبي الذي يُخضع لأوامره، ويستحيل مناقشة عقائده، كما يتميز الجمهور برغبة محمومة في نشر تلك العقائد والاعتقاد بصوابها المطلق، وميله إلى معاداة كل من يرفضون هذه العقائد). فإذا كان الفرد يقبل المناقشة فإن الجمهور لا يحتملها أبدًا. لقد أقر الجميع بالسبق للوبون في الكتابة عن السيكولوجيا الجمعية؛ لكن كتاباته واجهت انقسامًا حادًا بين منظري اليمين ومنظري اليسار، فالفريق الأول اعتبر كتاباته فتحًا علميًا ويلبي حاجة تاريخية لفهم طبيعة العصر، أما منظرو اليسار فقد اتهموه بالرجعية، ولا سيما بعد أن اشتهر لاحقًا أن هتلر وموسوليني كانا من قرائه.
صفات الجمهور عند لوبون:
يتميز بروح جماعية تؤلفها الترسبات النفسية التي ورثناها عن الأسلاف، سماها لوبن (روح العِرق). الفرد في الجمهور يكتسب شعورًا بقوة لا تقهر، يتلاشي أمامه الإحساس بالمسؤولية فالجمهور غافل ولا مسؤول، والجمهور أيضًا قابل للعدوى العقلية، وقابل للتأثر بالإيحاء، فالفرد يمكن أن يواجه حالة يفقد فيها شخصيته ويخضع لكل الإيحاءات الموجهة ويرتكب من الأفعال ما يعاكس طبيعته الفردية، فالفرد وإن كان مثقفًا في حالته الانعزالية أضحى همجيًا وغريزيًا بمجرد انخراطه في الجمهور، والجمهور أيضًا سريع التصديق وسريع التأثر ويفتقد الحس النقدي، نزاع إلى كل ما هو متطرف، لا يعرف الظمأ إلى الحقيقة بل يطلب أوهامًا وهو يقدم اللا واقعي على الواقعي، ولا يميز بينهما، والجمهور عظيم التأثر بالكلمات القادرة على إثارة أعنف عواطفه، والعقل والحجج المنطقية لا تستطيع مجابهة بعض الكلمات أمام الجماهير، والجمهور بحاجة إلى زعيم آسر مفتون بإيمان عميق بفكرة ما وله قدرة على التأثير وضرب من الهيبة.
لابد أن نقر بالسبق للوبون في الكتابة عن السيكولوجيا الجمعية، ونقر أيضًا أن الأخير أجاد تشخيص الظاهرات الجماهيرية (تحديد سمات الجمهور) وخصوصًا حديث السيد لوبون عن اللاشعور والمقارنة مع حالة البدائيين النفسية، لكن هناك اعتراضين أساسيين عليه، هما: أن لوبون لم يفسر كيف تنشأ تلك السمات وماهية الروابط التي تنشأ بين أفراد الجمهور وبعضهم من جهة وبين أفراد الجمهور والزعيم من جهة أخرى، وأن الظاهرات التي وصفها لوبون من الممكن أن تتبدل وتتغير في بعض الأحيان، فالسيد لوبون نفسه أبدى استعداده للتسليم بأن أخلاقية الجماهير يمكن أن تكون في بعض الظروف أسمى وأرفع من أخلاقية الأفراد الذين تتألف منهم، وبأن الجماعة هي وحدها القادرة على التدليل على تجرد عظيم وعلى روح تضحية عظيمة.
وبينما تشكل المصلحة الفردية للفرد المحرك الأوحد تقريبًا للنشاط، فإنها لا تحدد إلا فيما ندر سلوك الجماهير، وينوه بعضهم أن المجتمع هو الذي يفرض معايير الأخلاق على الفرد الذي لو ترك لنفسه لما استطاع ارتفاعًا إلى مستوى هذه المعايير، بل يجزمون بأن الجماعة قد تشهد في بعض الظروف الاستثنائية انفجارًا للحماسة يجعل الجماهير قادرة على اجتراح أنبل الأفعال وأكرمها.
وفيما يتعلق بالإنتاج الفكري، فإن إبداعات الفكر الكبرى والحلول الحاسمة للمشكلات الخطيرة لا يمكن أن تنجم إلا عن عمل فردي، غير أن الروح الجماعية قادرة هي الأخرى على الإبداع الروحي، كما تبرهن لنا على ذلك اللغة والأغاني الشعبية الفلكلورية. وإزاء هذه التناقضات، نرى أنه لا بد من التمييز بين التشكيلات المتباينة التي تندرج تحت مسمى "جماهير"، فمعطيات لوبون وسيجل -من وجهة نظرنا -تتعلق بجماهير عابرة، تتشكل بسرعة عن طريق اجتماع عدد معين من الأفراد يحركهم اهتمام مشترك، لكنهم يفترقون بعضهم عن بعض من جميع النواحي الأساسية.
ويلاحظ أن هؤلاء المؤلفين تأثروا في شروحهم بأوصاف الجماهير الثورية وبخاصة جماهير الثورة الفرنسية، أما تلك الملاحظات المعارضة فناجمة عن الملاحظات التي أجريت على جماهير ثابتة، وتحشدات دائمة، يمضي فيها الناس حياتهم كلها، وتتجسد في مؤسسات اجتماعية، ونسبة الجماهير الأولى (الجماهير الثورية) إلى الثانية (التحشدات الدائمة) كنسبة الأمواج القصيرة، لكن العالية، إلى سطح البحر الواسع. إن كتاب فرويد جاء من موقع نقدي في محاولة للإجابة على تلك التساؤلات التي لم يجب عنها لوبون، وفي محاولة لمزيد من الاستقصاء والتحليل لطبيعة تلك العلاقات التي تنتج الظواهر الجماهيرية.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان