لقد قرأتُ القرآن وأنا طفل صغير، لا ترقى مداركي إلى آفاق معانيه، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه، ولكني كنت أجد في نفسي منه شيئًا. لقد كان خيالي الساذج الصغير يجسِّم لي بعض الأمور من خلال تعبير القرآن، وإنها لصور ساذجة ولكنها كانت تشوِّق نفسي وتلذ حسِّي؛ فأظل فترة أتملَّاها، وأنا بها فَرِح ولها نشيط. ثم دخلتُ المعاهد العلمية فقرأتُ تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة، ولكنني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل الذي كنت أجده في الطفولة والصبا. ترى هما قرآنان؟ قرآن الطفولة الميسَّر، وقرآن الشباب المعقَّد؟ أم إنها الطريقة المتَّبعة في التفسير؟ وعُدْتُ إلى القرآن أقرؤه في المصحف لا في كتب التفسير، وعُدْتُ أجد قرآني الحبيب الجميل، وأجد صوري المشوِّقة اللذيذة. إنها ليست في سذاجتها التي كانت هناك، ولكن سحرها ما يزال، وجاذبيتها ما تزال. الحمد لله، لقد وجدتُ القرآن.
سَحَرَ القرآن العرب منذ اللحظة الأولى، سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام، ومن جعل على بصره منهم غشاوة. وإذا تجاوزنا عن النفر القليل الذين كانت شخصية محمد -صلى الله عليه وسلم -وحدها هي داعيتهم إلى الإيمان في أول الأمر، كزوجته (خديجة)، وصديقه (أبي بكر)، وابن عمه (علي)، ومولاه (زيد)، وأمثالهم؛ فإننا نجد القرآن كان العامل الحاسم، أو أحد العوامل الحاسمة، في إيمان مَن آمنوا أوائل أيام الدعوة، يوم لم يكن لـ (محمد) حول ولا طول، ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا منعة. وقصة إيمان (عمر بن الخطاب)، وقصة تكذيب (الوليد بن المغيرة)، نموذجان من قصص كثيرة للإيمان والتكذيب؛ وكلتاهما تكشفان عن هذا السحر القرآني الذي أخذ العرب منذ اللحظة الأولى؛ وتوضحان - في اتجاهين مختلفين -عن مدى هذا السحر القاهر، الذي يستوي في الإقرار به المؤمنون والكافرون.
ولا يقل عن هاتين القصتين في الدلالة على هذا السحر، ما حكاه القرآن عن قول بعض الكفار: "لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ". فإن هذا يدل على الذعر الذي كان يضطرب في نفوسهم، من تأثير هذا القرآن فيهم وفي أتباعهم، وهم يرون هؤلاء الأتباع يُسْحَرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوهما (محمد) أو أحد أتباعه؛ فتنقاد إليهم النفوس، وتهوي إليهم الأفئدة، ويهرع إليهم المتقون. ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة، وهم في نجوة من سحر القرآن. فلولا أنهم أحسوا في أعماقهم هزة روّعتهم، ما أمروا أتباعهم هذا الأمر، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير، الذي هو أدل من كل قول على عمق التأثير. وقد قالوا في لجاجة الإنكار كما حكى عنهم القرآن: "أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ"، وقالوا: "أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ". فتحداهم مرة ومرة: "قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ"، "قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه". ولكنهم لم يأتوا بعشر سور ولا بسورة مفردة، ولم يحاولوا هذه المحاولة أصلًا، إلا ما قيل من محاولة بعض المتنبئين بعد (محمد)، وليس هذا من الجد في شيء، ولا يجوز أن يحسب له في هذا المجال حساب.
بعض الباحثين في مزايا القرآن، ينظر إلى القرآن جملة ثم يجيب؛ وبعضهم يذكر غير النسق الفني للقرآن أسبابًا أخرى يستمدها من موضوعاته بعد أن صار كاملًا: من تشريع دقيق صالح لكل زمان ومكان، ومن إخبار عن الغيب يتحقق بعد أعوام، ومن علوم كونية في خلق الكون والإنسان، ولكن البحث على هذا النحو إنما يثبت المزية للقرآن مكتملًا. فما القول في السور القلائل التي لا تشريع فيها ولا غيب ولا علوم؛ ولا تجمع بطبيعة الحال كل المزايا المتفرقة في القرآن؟ إن هذه السور القلائل قد سُحِر العرب بها منذ اللحظة الأولى، وفي وقت لم يكن التشريع المحكم، ولا الأغراض الكبرى، هي التي تسترعي إحساسهم، وتستحق منهم الإعجاب. لا بد إذن أن تلك السور القلائل كانت تحتوي على العنصر الذي يسحر المستمعين، ويستحوذ على المؤمنين والكافرين. وإذا حُسِب الأثر القرآني في إسلام المسلمين، فهذه السور الأولى تفوز منه بالنصيب الأوفى، مهما يكن عدد المسلمين من القلة في ذاك الأوان. ذلك أنهم تأثروا بهذا القرآن وحده - على الأغلب -فآمنوا. أما الكثرة الكثيرة التي أسلمت بعد أن انتصر المسلمون، وبعد أن غلب الدين، فقد كان أمامها بجانب القرآن عوامل يتأثر بها من يسلمون.
يجب إذن أن نبحث عن (منبع السحر في القرآن) قبل التشريع المُحكَم، وقبل النبوءة الغيبية، وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كله. فقليل القرآن الذي كان في أيام الدعوة الأولى كان مجردًا من هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد، وكان - مع ذلك -محتويًا على هذا النبع الأصيل الذي تذوَّقه العرب، فقالوا: "إنْ هذا إلا سحر يُؤْثَر". إننا نقرأ الآيات المَكيّة في هذه السور فلا نجد فيها تشريعًا محكمًا، ولا علومًا كونية - إلا إشارة خفيفة في السورة الأولى لخلق الإنسان من علق -، ولا نجد إخبارًا بالغيب يقع بعد سنين كالذي ورد في سورة (الروم)، وهي السورة الرابعة والثمانون. فأين هو السحر الذي تحدث عنه (الوليد ابن المغيرة) بعد التفكير والتقدير؟ لا بد إذن أن السحر الذي عناه كان كامنًا في مظهر آخر غير التشريع والغيبيات والعلوم الكونية. لا بد أنه كامن في صميم النسق القرآني ذاته، لا في الموضوع الذي يتحدث عنه وحده.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان